ARTICLES
نادي المتخرجين وذروة أيامه في لعبة التنس
بيروت في خمسينيات القرن العشرين، تنضح حلاوة وتتألق بألوانها! بيروت، حيث وجد إختلاط الثقافات الخاص بمنطقة البحر الأبيض المتوسط ملاذاً مشمساً، بعد أن كان خسر سميرنا (إزمير) في العام 1923، والإسكندرية في العام 1956. بيروت، بجامعاتها العريقة، وأسواقها، وسياراتها الأميركية، وأشجار الكينا في أرجائها، مدينة إستضافت مباريات نوعية في التنس ما بين العامين 1954 و1962، في ملاعب الطين (الأرضية الترابية) التابعة لنادي متخرجي الجامعة الأميركية، نادٍ يضمّ نخبة الأشخاص الذين أنهوا دراستهم في هذه الجامعة المرموقة... وبدعم مالي من شركات يملكها متخرجون ويديرونها، أمثال إميل البستاني ونجيب علم الدين، كان مهرجان الربيع للتنس في بيروت يُنظَّم في شهر نيسان (أبريل) من كل عام، متى يصبح المناخ عليلاً في المدينة الساحلية. كانت حقبة خاض أشخاص خلالها مباريات التنس، حاملين مضارب خشبية ثقيلة، ومرتدين قمصان "بولو" وسراويل قصيرة بيضاء مخصصة لهذه الرياضة. وكانت مرحلة، غابت فيها أشواط كسر التعادل، والإستراحات بين أشواط المجموعات، والآلات الثاقبة للنظر (عين الصقر) التي تُستعمَل لتحديد ما إذا كانت الكرة تجاوزت الخطوط عندما تصعب رؤية آثارها، وغاب فيها النقل التلفزيوني للمباريات. وكان الإستمتاع بالمواجهات التي ضمّت أفضل اللاعبين يتطلّب الذهاب إلى رأس بيروت، وتناول الغداء في مطعم "فيصل" مقابل المدخل الرئيس للجامعة، ومن ثم السير شرقاً في إتّجاه الملاعب الثلاثة التابعة لنادي المتخرجين، وتمضية بعضٍ من ساعات بعد الظهر في مراقبة أفضل اللاعبين "الهواة"، إذ يتنافسون على الصيت والشهرة، وعلى مبلغ زهيد من المال يسمح بتغطية نفقاتهم. بعد ذلك، ومع إنتهاء الحدث، كان ينبغي التوجّه إلى فندق "سان جورج" عند الواجهة البحرية لإحتساء مشروب، ولإستمتاع بغروب الشمس وإنحدارها ببطء في عرض البحر، ومشاهدة جبل صنين الشامخ (جبل لبنان)، المكسو بلون فريد يتراوح بين الزهري والرمادي... ولا شك في أن أمسية الرخاء في بيروت ما كانت لتكتمل من دون عشاء لبناني تقليدي في مطعم "العجمي" في قلب الأسواق. وما كانت لتفسد متعة بعد ظهر كهذا إلا الرياح الشرقية الصحراوية المحمّلة بالرمال. (ففي لبنان، يعرف الجميع أن كل ما هو جيّد يأتي من الغرب، من نسيم عليل، وأمطار مفيدة، وثقافة تعلّم وعمل دؤوب. أما الشرق، فلم يحمل إلاّ الاضطرابات السياسية، والمواقف المتطرّفة الصاخبة). بيروت الخمسينيات والستينيات مدينة لم تحاصرها ضواحٍ تعجّ بأشخاص طائفيين (متشددين) وملتحين، ولم تكن تعرف إقفالاً شبه يومي لطريق المطار، علماً أنّ طائرات تعود إلى أكثر من 55 ناقلة جوية عالمية كانت تهبط في ما كان يُعرَف آنذاك باسم مطار بيروت الدولي. وفي تلك الحقبة، كانت بيروت محاطة ببساتين الليمون في الضواحي الجنوبية، وأشجار الصنوبر في اليرزة وبيت مري. هكذا كانت الأيام الذهبية، التي لا يمكن لأي أرقام وعلامات أن تصوّرها. ومع ذلك، إسمحوا لي بأن أقدّم لكم ما أعتبره السجل الوحيد المتوافر عن دورات التنس التي نظّمها نادي المتخرجين.
برمانا تحت أشجار الصنوبر - 2011
هذا الموقع يأخذني في الخيال إلى ذكرى طيّبة أضفت رونقاً على شبابي في لبنان، فترتبط به نتائج البطولات الدولية التي زيّنت هذا البلد قبل إندلاع الحرب الأهلية (1975 - 1990). لقد وضعتُ فيه نتائج لقاءات رياضية جمعتُها بتأنٍ من صحف يومية قديمة، ومن برامج مباريات مهترئة، ومن ملاحظات كتبتُها خلال مراهقتي. إنه موقع يحاول (إعادة) رسم إطار لعبة التنس في ذلك الزمن، ويخلّد ذكرى سعيدة لسنوات ذهبية في بلدنا. إلى كلّ الأشخاص الذين سلكوا في أوج حرّ شهر آب الطريق المتعرّجة التي تربط العاصمة بيروت ببلدة برمانا، للجلوس على المدرّجات الموقتة المصنوعة من الخشب الأبيض، تحت ثلاث شجرات صنوبر، والإستمتاع بالمباريات، ستوقظ كلماتي هذه كمّاً هائلاً من الصور، بدءاً بالملعب الصغير ذي الأرضية الرملية، فضلاً عن الجدار المصنوع من حجر قديم الذي يحدّه من ناحية الشرق وتثقبه شجرة صغيرة غريبة في الوسط، مروراً بالخطوط البيض غير المستقيمة المرسومة بالكلس على أرضية رملية حمراء، وصولاً إلى الظل المريح لأشجار الصنوبر العملاقة الذي يخيّم على المدرجات. ويطغى على هذا المشهد غناء الزيز الصاخب الذي يتضاعف حين تشتد أشعة الشمس. وفي الأعلى، ينبعث صوت خلفي من الطريق الرئيسة المطلّة على ملعبي التنس ويمزج ما بين الهدير القوي لسيارة أميركية ذات محرك بثماني أسطوانات وبين الرنين الخافت للملاعق الطويلة التي يحملها محبو "موس الشوكولا" الذين يتناولون أكوابه عند كنعان، ذلك العجوز البخيل. ومن وقت إلى آخر، تُسمع أصوات طلاب يقرأون في صف إكمال من مبنى المدرسة الموجودة تحت ملعبي التنس. كان نادي برمانا الرياضي يعدّ جزءاً من مدرسة برمانا العالية "برمانا هاي سكول" التي تأسست منذ مئة عام والتي تدرّس باللغة الإنكليزية، الأمر الذي يعتبر شاذاً في هذه المنطقة من جبل لبنان التي تطغى عليها مدارس الإرساليات الفرنكوفونية. وفي شرق أوسط تأخر في مواكبة أوروبا المجاورة والعريقة، جذب لبنان الذي كان متقدماً على المستويين الثقافي والتربوي، طلاباً من البلدان العربية المجاورة فدرسوا في برمانا كما في بيروت في جامعتين عريقتين الأولى أميركية والثانية يسوعية كانتا تعجّان بنخب متلهفة لمتابعة تحصيلها العلمي العالي. ومن هنا يمكن تفسير التنوّع الفريد للجمهور الذي يعلّق على مباريات التنس باللغة العربية والفرنسية والإنكليزية، ويمزجون بينها فيما كل واحد يتميّز بلهجته الخاصة التي لا ننسبها إلى مناطق أو بلدان بل إلى مدن. فكانوا يقولون فلان لهجته دمشقية وهذا لهجته طرابلسية أو حمصية، وهكذا دواليك للأشخاص القادمين من مدينتي حيفا والإسكندرية أو بلدان الخليج الذي كان لا يزال إسمه الخليج الفارسي. كان هذا الجمهور يملأ المقاعد على مدى سبعة أيام عامرة بالسعادة، بما فيها يوم الإثنين الذي يشهد لقاءات غير حماسية ضمن الدور الأول، بدءاً من مجموعة من المشجعين المسمرين في مقاعدهم قبل بداية المباريات (عند الساعة الواحدة والنصف من بعد الظهر) حين تبدأ الجولة الأولى من المباراة، وصولاً إلى المئات من الأشخاص الذين يتهافتون خلال عطلة نهاية الأسبوع لحضور النهائيات. كما إعتلى الأشخاص الذين وصلوا متأخرين، الجدران المطلة على الملعب المركزي الذي على رغم تواضع مقاساته كان يعتبر بالنسبة إلينا مثل ملاعب رولان غاروس وويمبلدون. لم يكن الناس يملكون أجهزة تلفاز في منازلهم ليشاهدوا يومياً من على أرائكهم المريحة النقل المباشر للمباريات، التي تقرّبهم من نجوم الملعب. فلم يتمّ إختراع هذا الترف إلا في الثمانينات فيما كان بوسعنا في برمانا أن نرى عن كثب وعلى بعد أمتار قليلة اللاعبين الذين يملكون موهبة عالية وهم يزاولون رياضتهم. كان هذا زمن "تنس الهواة" التي يتبارى فيها لاعبون بارعون يرتدون لباساً أبيض ولا يتنافسون سوى من أجل المجد وكأس من فضة. وكانوا يحصلون على بعض النقود من أجل تغطية تكاليف تنقلهم. غير أنّ ذلك لا ينطبق على أفضل 10 أو 15 لاعباً على الصعيد الدولي الذين يحصلون "من تحت الطاولة" على مبلغ نقدي أكبر يغريهم بالمشاركة في بطولات توكيه (فرنسا) وكيتزبول (النمسا) أو برمانا. لقد حظّرت السلطات الرياضية العليا في العالم مزاولة هذه الرياضة من أجل المال، وإعتبرت مثل هذا السلوك "عار الهواية"، لا سيما أن لعبة التنس عموماً لم تكن بلغت بعد عصر الدورات المفتوحة التي يتبارى فيها اللاعبون للحصول على جوائز نقدية أصبحت سريعاً مجزية ومغرية جداً، ما زاد من إثارتها. من عام 1950 إلى عام 1967، أرسل منظمو البطولات المناطقية موفدين لاختيار لاعبين في باريس أو لندن حيث يشارك النجوم من أجل شهرتهم ومسيرتهم وتعزيز سجلهم. في حالة برمانا، يجدر بالمندوب أن يضيء على مفاتن لبنان، وأن يتحدّث عن مناخه وطبيعته وشواطئه وقربه مواقعه المميزة من المطار الدولي وأن يسوّق نضارة جباله وهواءها. كما يجب أن يلتقي مع منظّم بطولة إسطنبول وينسّق معه كي يستحق إنتقال النجوم الذين يتمّ جذبهم من خارج أوروبا الشرقية على مدى أسبوعين متتاليين، إلى المشرق العناء. وكان ميشال قرطاس هو المندوب اللبناني، وهو رجل حاسم وحازم طبع البطولة بنشاطه المتواصل. وقد حلّ مكانه شوقي فريحة الذي الذي تميّز بلطفه. وفي بيروت كان تجرى مباريات دورات متخرجي الجامعة الأميركية في نادٍ موجود في وسط المدينة خاص بقدامى الجامعة، التي تعتبر واحة من الإحترام والتعايش في بلد تطغى عليه الفردية. في هذا المكان، حلت أشجار الدلب وأشجار البلوط مكان أشجار الصنوبر في برمانا، وأعطت طابعاً لذيذاً وعالمياً لهذا الحدث الرياضي. في ذلك الزمن الجميل، كان لبنان منشغلاً بسحر جمال اللاعبات الألمانيات (من يستطيع نسيان الشقيقتان بودينغ أو المغناج هيلغا شولتز) وليس بالخوف اليومي من المسلحين الملتحين. كان ذلك زمناً جميلاً حين كان رجال الدولة لا يزالون مدنيين متعددي اللغات يتابعون منافسات "حضارية". كان زمناً جميلاً حين كان لون كرة التنس لا يزال أبيض والسماء أكثر زرقة وأشجار الصنوبر أكثر وفرة وهوايتنا خفيفة الظل. إنها وقفة حنين ومساحة للأرقام والنتائج.